المحجة البيضاء
لقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ونزّل عليه القرآن الكريم وأتم نعمته علينا. قال تعالى : "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)" سورة المائدة
وقال تعالى : "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)" سورة النحل
فالنعمة تمّت وما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدّى الأمانة كاملة من غير نقص. أخرج البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره وقال ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته أنذره نوح والنبيون من بعده وإنه يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم ثلاثا إن ربكم ليس بأعور وإنه أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد ثلاثا ويلكم أو ويحكم انظروا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض1.
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بتبيين ما نزل في الكتاب. قال تعالى : "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)" سورة النحل.
فبلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم للأُمّة كل ما تحتاج إليه من أمور دينها. فمن جملة ما علّمنا - صلى الله عليه وسلم -
-
الصلاة : روى البخاري عن أبي قلابة قال حدثنا مالك أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم2.
-
الحج : روى مسلم عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه3.
-
اللحوم المحرّمة : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. وعن جابر رضي الله عنه قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني يوم خيبر - لحوم الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. رواه أحمد والترمذي4.
-
الزواج المحرّم :
-
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة قالت عائشة فقلت يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه فلانا لعم حفصة من الرضاعة فقالت عائشة لو كان فلان حيا لعمها من الرضاعة دخل علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة. رواه البخاري5 ومسلم6. عن عروة عن عائشة قالت إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما نزل الحجاب فقلت والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته قال ائذني له فإنه عمك تربت يمينك. قال عروة فبذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب. رواه البخاري7.
-
لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. قال البخاري8 حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا عاصم عن الشعبي سمع جابرا رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها وقال داود وابن عون عن الشعبي عن أبي هريرة. وراه مسلم أيضا9.
-
المواريث : عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر. رواه البخاري10 ومسلم11.
هذه أمثلة مما بينته السنة النبوية. وقد قال صلى الله عليه وسلم : ألا إنِّي أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معهُ. رواه أبو داود وهو صحيح.
وقد نهلت القرون الأولى المشهود لها بالخير12 من كتاب الله وسنة رسوله لا تخلطها بشيء فكانت تسير على هدى من الله ثم جاءت أقوام تأثرت بعقائد اليهود والنصارى والفلسفة اليونانية وحكّمت العقل على النقل فكانت الفُرقة وكثرت الضلالات وتشعبت السبل.
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما قَالَ : أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ : (أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ). رواه أبو داود (4597) والحاكم (443) وصححه، وحسنه ابن حجر في " تخريج الكشاف " (ص : 63)، وصححه ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (3 / 345)، والشاطبي في " الاعتصام " (1 / 430)، والعراقي في " تخريج الإحياء " (3 / 199) وقد ورد عن جماعة من الصحابة بطرق كثيرة.
وورد بلفظ : (... وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا : وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)، رواه الترمذي (2641) وحسَّنه ابن العربي في " أحكام القرآن " (3 / 432)، والعراقي في " تخريج الإحياء " (3 / 284)، والألباني في " صحيح الترمذي "13.
واليوم إذ ينادي المخلصون والغيورون على هذا الدين : علينا أن نوحد الصفوف ونجمع الكلمة. نعم هذا واجب ولكن بشرط الرجوع إلى المنهل الصافي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن ماجه عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال : قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد. حديث صحيح.
اللهم اهدنا إلى سواء السبيل
1صحيح البخاري كتاب المغازي باب حجة الوداع
2صحيح البخاري كتاب الأذان باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة
3صحيح مسلم كتاب الحج باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا وبيان قوله صلى الله عليه وسلم لتأخذوا مناسككم
4نيل الأوطار كتاب الأطعمة والصيد والذبائح باب تحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير
5صحيح البخاري كتاب الشهادات باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم
6صحيح مسلم كتاب الرضاع باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة
7صحيح البخاري كتاب الأدب باب قول النبي صلى الله عليه وسلم تربت يمينك وعقرى حلقى
8صحيح البخاري كتاب النكاح باب لا تنكح المرأة على عمتها
9صحيح مسلم كتاب النكاح باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح
10صحيح البخاري كتاب الفرائض باب ميراث الولد من أبيه وأمه
11صحيح مسلم كتاب الفرائض باب ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر
12قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خيرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الذين يَلُونَهُمْ قال عِمْرانُ : فلَا أَدْرِي أذَكَرَ بعدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثلاثًا ثُمَّ إنَّ بعدَكُمْ قومًا يشْهَدُونَ ولَا يُسْتَشْهَدُونَ ويخونونَ ولَا يُؤْتَمَنُونَ وينذُرونَ ولَا يُوَفُّونَ ويَظْهَرُ فيهم السِّمَنُ. رواه البخاري.